أحدث الإضافات

الاشكالية بين تقديس القرآن و نقد أو إلغاء الموروث

إن التطور الذي شهدته الإنسانية في العقود القليلة الماضية مصحوباً بازدياد الحركات الإرهابية التي ترفع راية الإسلام قد وضع المسلمين في مأزق بين أمم الأرض.  وفي بحث عن مخرج من هذا المأزق دأب المفكرون التنويريون على إيجاد تفاسير جديدة للنصوص الإسلامية و نقد الموروث الإسلامي أو توقيف العمل به. و المعني بالموروث الإسلامي هو مجامع الأحاديث و السنّة النّبوية و كتب التفسير و الفقه و السّيرة النّبوية.

مما لاشك فيه أن الباحث في الموروث بمافيه الأحاديث “الصحيحة” سيجد نصوصاً متعددةً تتناقض  مع القرآن أو مع العقل و المنطق أو أنها و لو كانت صادقةً لا تتلائم مع الحياة في العصر الحالي و مقوّماته من تقدمٍ و ثقافةٍ وعلمٍ و إنسانية. و الأمثلة كثيرة على ذلك نحن لسنا بصدد ذكرها الآن.  فبينما المفكرون المعاصرون يدعون إلى توقيف العمل بنصوص الموروث الإسلامي التي ذكرناها إلا أن رجال الدين و “علماء المسلمين” التقليديين يرون في ذلك خطراً كبيراً على الإسلام. ذلك الخطر كما يراه “علماء المسلمين” ناجمٌ عن الإرتباط الوثيق بين القرآن و الموروث و أن إلغاء الموروث قد يسقط القرآن. ولعلّ لدى علماء المسلمين وجهة نظر منطقية في مايقولون رغم الغرابة الظاهرة فيه. فمن المنطقية أن القرآن كلام الله و لا تسقط قدسيته مهما حدث. ولكن ببعض التفكر و التحليل لمايدّعيه رجال الدين نجد أن هنالك ارتباط وثيق بين القرآن و الموروث وبالتالي لايمكن نقد و إلغاء الموروث دون نقد القرآن نفسه. وفي مايلي أهم أسباب هذا الإرتباط بين القرآن و الموروث:

القرآن و الحديث و السنّة النّبوية:

للحديث و السنّة النّبوية مع القرآن الكريم وظيفتان اساسيّتان لدى رجال الدين الإسلامي و علمائه التقليديين:

الأولى: أنهما يكمّلان الدّين الإسلامي بتفصيل التشريعات و الشعائر التي لم يرد لها تفصيل في القرآن الكريم. و أهم هذه الشعائر هي الصّلاة التي وردت كأمر من الله في القرآن. فلم يرد توضيح و تفصيل محدّد في القرآن عن ماهي الصلاة و كيف القيام بها. و لولا السنّة و الأحاديث التي وصلتنا عن النّبي لما عرف المسلمون كيف يصلّون و ماهي أوقات الصّلاة. “قال رسول الله صلى الله عليه و سلّم: صلّوا كما رأيتموني أصلّي”  (صحيح البخاري).

فإذا توقف العمل بالسنّة أو الحديث كيف نعرف ماهي الصلاة؟ و كيف علينا القيام بهذه الفريضة؟ إنّ هذا من أهم الأسئلة التي تطرح على من يريدون توقيف العمل بالحديث و السنّة النّبوية. و أهميّته تأتي من أهميّة الصلاة كدعامة من دعائم الدين الإسلامي و شعيرة تميّز الإسلام عن غيره من الأديان.  و في الواقع أنه سؤال منطقي و يشكل مفارقةً و معضلةً للتنويريين حتى أن البعض ذهب إلى التّفكر بمعانٍ جديدةٍ للصلاة لايوجد لها أصل في التاريخ العربي أو الإسلامي. فمنهم من قالوا أن الصلاة هي العمل و منهم من قال هي التواصل و هكذا.

الثانية: هي تيسير فهم القرآن الكريم و بيان آياته بناءً على الآية ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (القيامة: 19). فالقرآن يشير بوضوح أن من مهام رسول الله أن يبيّن القرآن للنّاس و في هذه الآية أمران أساسيّان:

  1. أن القرآن حتى في زمن النبي كان يحتاج إلى تبيان و شرح لكي يفهمه النّاس بالرغم من أنه نزل في لغة أهل تلك المنطقة.
  2. أن الرسول بيّن و شرح القرآن للناس كما ذكر في الآية و نحن بحاجة لذلك الشرح (في السنّة و الحديث) لفهم القرآن.

و الأمثلة كثيرةٌ على ضرورة الإعتماد على ماروي عن رسول الله لفهم بعض مفردات القرآن و قصص القرآن مثل سدرة المنتهى و الكوثر و منها أيضا قصّة أهل الكهف. فحتّى لو كانت تلك هي عبارة عن قصص ليس فيها أحكام أو شرائع إلا أنها لم تنزل عبثاً فلها مقصد أفلا يجب على المسلمين معرفة معناها و المغزى منها؟ و هذه بعض الأمثلة على شرح الحديث النّبوي لبعض معاني القرآن:

عن أنس بن مالك رَضِي الله عنْهُ في حديث الإسراء والمعراج الطويل، وفيه أنه صَلَى اللهُ عَليهِ وَسلَّم قال: “ثم عرج إلى السماء السابعة. فاستفتح جبريل. فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صَلَى اللهُ عَليهِ وَسلَّم. قيل: وقد بُعِث إليه؟ قال: قد بُعِث إليه. ففُتِح لنا. فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام، مُسندًا ظهره إلى البيت المعمور. وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه. ثُم ذُهِب بي إلى سِدرة المُنتهى. وإذا ورقها كآذان الفِيلة. وإذا ثمرها كالقِلال. قال، فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت. فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها” (رواه مسلم- كتاب الإيمان- باب الإسراء برسول الله صَلَى اللهُ عَليهِ وَسلَّم ومعراجه حديث رقم 284).

عن أنس رضي الله عنه قال : ” بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ غفا إغفاءة , ثم رفع رأسه متبسما فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : نزلت علي سورة . فقرأ . بسم الله الرحمن الرحيم . ( إنا أعطيناك الكوثر إلى آخرها ) , ثم قال : أتدرون ما الكوثر ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : فإنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير , وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ” الحديث .

إن الباحث الموضوعي عن الصّلة بين القرآن و الحديث و السنّة النبوية سيجد روابط وثيقةً لايمكن نفيها أو إلغاؤها. فلابدّ من إدراك أن القرآن نطق به النّبي صلى الله عليه وسلم و هو أعلم البشر بمعناه و كلّما تعرّفنا على ماقاله النّبي و شرحه عن القرآن كلمّا ازداد فهمنا لهذا الكتاب العظيم.

القرآن و التاريخ الإسلامي و السّيرة النّبوية:

إن الروابط بين التّاريخ الإسلامي و السنّة النبوية من جهة و القرآن الكريم من جهة أخرى وثيقة و من الصعب فكّها. و هي تتلخص في ثلاثة أمور أساسية:

الأولى: أسباب و ظروف النّزول لبعض آيات القرآن التّي لايمكن فهمها بمعناها الصحيح دون النظر إلى تاريخ و ظروف نزولها. و أيضاً الأمثلة على ذلك كثيرة:

  • قوله تعالى: “عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)” (عبس)
    فالآيات الأولى من هذه السورة إذا لم توضع في نطاقها و ظروفها التاريخية من السّيرة النّبوية تصبح مفرغة من معناها الحقيقي و قد ينشأ عنها معانٍ أخرى ليست هي مقصد السورة.
  • قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)” (آل عمران)
    ماذكر في السيرة النبوية و التاريخ الإسلامي يشرح لنا ماهو يوم التقى الجمعان و من هم الجمعان و لولا ذلك لما عرفنا معنى و سبب نزول هذه الآية.

الثّانية: ترتيب النّزول للآيات و السور القرآنية. فلايمكن فصل القرآن عن البيئة و الظروف التي نزل فيها بما في ذلك الترتيب الزمني لنزول الآيات القرآنية مكيّة أم مدنية. و مع أن معرفة ترتيب نزول الآيات و السور القرآنية ليس بالأهمية الكبرى لعامّة المسلمين و لكنّه مهم في نفس الوقت للباحثين في التاريخ الإسلامي و نشأته و تطوره و تسلسل نزول الآيات و السور القرآنية بما يتوافق مع الظروف التاريخية و الاجتماعية آنذاك.

الثالثة: قصّة القرآن و جمعه و هي الأكثر أهمية. فإن أهم دعائم قدسيّة القرآن عند المسلمين هو أنه لم يحّرف و كتب كما نزل لم ينقص منه أو يزد عليه شيء. و يعتمد المسلمون بمافيهم التنويريون و القرآنيون على ماذكر في التاريخ الإسلامي عن قصّة كتابة و حفظ و جمع القرآن لإثبات أنه مقدّس و لم يتم تحريفه بالرغم من أنهم ينقدون النّقل في الأمور الأخرى من الدين و في هذا مفارقة كبيرة.

أمّا أن نقول أن القرآن كلام الله الذي لم يحرّف لأن القرآن يقول كذلك فهي ما يسمى بالمنطق الدائري و هي من اكبر المغالطات التي يقع فيها المسلمون بمحاولة إثبات الشيء بالشيء نفسه. وأما أن نستدل على قدسيّة القرآن و أنه لم يحرّف من خلال بلاغته اللغوية فهو استدلال ضعيف يضع القرآن في مرتبة كتب كثيرة ذات بلاغة عالية مثل نهج البلاغة للإمام علي و أشعار المتنّبي و كتب شيكسبير و غيره. كما أن البلاغة امر ذوقي فنّي و ليس علمي و لايمكن قياسه بدقّة. فلانستطيع أن نقيس بلاغة كتابٍ ما قياساً علمياً دقيقاً بل إن ذلك يعتمد اعتمادا كليّاً على ذوق و ثقافة القارئ أو المستمع بالإضافة إلى البيئة و الثقافة التي يعيش فيها. إن الدلائل على قدسيّة القرآن و أنه الكلام الحرفي من الله لابد أن تكون خارجية عنه و ليست من نفسه لكي تكون دلائل يقينية و منطقيّة. و في ذلك لابدّ من اللجوء إلى دلائل مادّية ملموسة أو تاريخية.

وعلى الرغم من أن بعض المؤرخين الإسلاميين ذكروا بأن القرآن كتب لحظة نزوله على النّبي على صحف و عظام و غيره من وسائل الكتابة التّي كانت موجودة في ذلك الوقت إلا أنه لايوجد أيّ أثر لواحد من تلك الكتابات على الرغم من ان علماء الآثار مازالوا يكتشفون كتابات و ألواح عمرها مئات السنين قبل القرآن. و كل مانعرف عن كيفية نزول الوحي و كتابة و ترتيب و جمع القرآن نقل إلينا عن طريق كتب التاريخ الإسلامي و السير النّبوية.

وبناءً على ماسبق ذكره فإن التاريخ الإسلامي و السيرة النبوية التي نقلت إلينا هي الحاضنة التاريخية التي نشأ فيها القرآن و هي المصدر الوحيد (خارج القرآن) الذي يروي لنا قصّة القرآن و أنه كلام الله الذي أوحي لرسوله محمد.

القرآن و كتب التفسير:

إن فهم القرآن صعب  على عّامة الناس فحتى في فترة وحي القرآن هناك دلائل كثيرة على أن المسلمين و الصحابة و عامة الناس كانوا يسألون النبي عن معاني و مقصد الكثير من الآيات القرآنية على الرغم من أن القرآن قد نزل بلسان العرب في تلك المنطقة و تلك الفترة. و لذلك كان لابدّ من نشأة كتب و علم التّفسير لتسهيل فهم القرآن على النّاس.  و حتى التنويريون و المعاصرون أنفسهم المنادون بأن القرآن سهل الفهم و أنه يشرح نفسه قد كتبوا كتبًا و مجلّدات ليشرحوا فيها مقاصد و مفاهيم القرآن. و القرآن كغيره من الكتب قد يفهمه القارىء بأوجهٍ مختلفةٍ على حسب المنظور و الثقافة و المذهب و البيئة الإجتماعيّة و غيره. و تقّدم كتب التفسير الأوجه المختلفة لمعنى الآيات القرآنية بالاعتماد على القواعد اللّغوية و الحديث و التاريخ و أسباب النّزول وغيره. وبما أن القرآن عربي اللّغة فلا بدّ أيضاً من الإعتماد على كتب و علم التفسير عند ترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى للوصول إلى المعنى الأقرب.

القرآن و رجال الدين و كتب الفقه:

رغم الإعتقاد السائد أن القرآن صالح لكل زمان و مكان فهناك الكثير من الأمور التي لم يشرحها لنا القرآن خاصّة في ظل التطور و العولمة التي تشهدها الإنسانية. فأخذ علماء المسلمين و رجال الدين على عاتقهم شرح و تأويل تلك الأمور للتوافق بين مايقوله القرآن و ما يتطلبه العصر. فعلى سبيل المثال موضوع الصّيام في البلدان الشمالية التي قد يطول النهار فيها لأكثر من 20 ساعة. و مثال أخر هو الصيام و الإفطار للمسافر وكيفية الصلاة في الطائرة. كل هذه الأمور لم يذكر لها تصريف في القرآن. ولعلّ مبدأ رجل الدين قد نشأ بسبب تساؤلات النّاس عن كثير من الأمور  في القرآن التي يحتاجون شرحا لها. و بإمكاننا القول أن رجال الدين و علماؤه ورثوا عن رسول الله و ظيفته في تبيان القرآن والذكر للناس. وبدون رجال الدين سيفهم كل إنسان القرآن على حسب قناعاته و بالتالي كلّ على هواه.

 

ختاماً نقول وفقاً لما سبق ذكره أن إلغاء المنقول من الموروث الإسلامي يزعزع الدعائم الأساسية التي يتخذ القرآن منها قدسيّته و معانيه. و بمعزل عن ذلك الموروث يصبح القرآن كتاب مثله كبقية الكتب التي كتبت لايعرف مصدرها أو أساسها الحقيقي. إن مانقل إلينا من خلال الموروث هو مايضع القرآن في مكانته المقدّسة. ولذلك فإنه لايمكن إلغاء الموروث الإسلامي و التوقف عن العمل به و في نفس الوقت القول أن القرآن هو كلام الله فكيف عرفنا ذلك إذاً؟  وأما من يأخذ ببعض الموروث و المنقول الذي يتلائم مع قدسيّة القرآن و كلامه فينطبق عليهم قوله تعالى:”أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ” (البقرة:85). فهم يأخذون ببعض المنقول بما يتطابق و يدل على قدسية القرآن و يتركون بعضه الأخر و في هذا أيضا الوقوع في متاهة المنطق الدائري. أليس القرآن منقول إلينا أيضاُ.  إنه من غير المنطقي إذًا نقد و لغي الموروث دون الوقوع في مأزق نقد و لغي القرآن لأنه منقول إلينا أيضا فالموروث الإسلامي هو الدليل الوحيد لدينا على قدسيّة القرآن.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*